فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في إثم فاحشة اللواط:

اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه وجنبنا وَإِيَّاكَ ما يكرهه ولا يرضاه أن اللواط رذيلة من أسوء الرذائل وخصلة من شر الخصال التي لا تليق بالإِنْسَان فإن الله خلق الإِنْسَان من ذكر وأنثى وجعل الأنثى محلاً لِقَضَاءِ الشهوة ومَكَانًا لذَلِكَ الْعَمَل الْخَاص فهو مسوق بفطرته إلى ذَلِكَ المعنى.
واللواط- أعاذنا الله وَإِيَّاكَ منه- خروج عن ذَلِكَ، واعتداءٌ صريح على الطبيعة التي ركبها الله وَذَلِكَ شر وبيل وفساد كبير وفيه عار الزنا وإثمه وعقابه بل هُوَ أشد عارًا أعظم إجرامًا ونَحْنُ بالبداهة ندرك أن عار امرأة يزنى بها لَيْسَ كعار رجل يلاط به كما أن احتقارنا وبغضنا إياها مهما كَانَ شديدًا أخف على كُلّ حال من نفرتنا من اللوطي ومقتنا له.
والسبب في هَذَا أن الزنا وإن خالف مقتضى الشرعة لم يخالف مقتضى الطبيعة التي ركبها الله في الإِنْسَان بخلاف اللواط فقَدْ خالف مقتضى الشريعة والطبيعة معًا. وقَدْ أجمَعَ أَهْل العلم على تحريم اللواط وقَدْ ذمه الله تَعَالَى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم.
قال الله تَعَالَى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}.
وفي قصة قوم لوط يبدو انحراف الفطرة واضحًا حتى لأن لوطًا ليجيبهم بأنهم بدع دون خلق الله فيها وأنهم في هَذَا الانحراف الشنيع غير مسبوقين.
قال عمرو بن دينار في قوله تَعَالَى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} قال: ما نزل ذكر على ذكر حتى كَانَ قوم لوط. وَقَالَ الوليد ابن عبد الملك لولا أن الله عَزَّ وَجَلَّ قص عَلَيْنَا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا.
وعجب أن نرى تلك العادة الشائنة القبيحة تنتقل من أولئك الأَشْرَار الَّذِينَ خسف الله بِهُمْ إلى غيرهم من النوع الإنساني مَعَ إنها لم تكد توَجَدَ في الحيوانات الأخرى فإنك لا تكاد تجد حيوانَا من الذكور يأتي ذكرًا مثله اللَّهُمَّ إِلا قليلاً نادرًا كبعض الحمر الأهلية وإلى ذَلِكَ تشير الآيَة الكريمة فإنه تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: إن تلك الفاحشة لم يسبقكم بها أحد من العالمين والعَالِم كُلّ ما سِوَى الله فيشمل الإِنْسَان والْحَيَوَان قال في كتاب الأَخْلاق الدينية.
وإذا كَانَ الإِنْسَان تسوقه شهوته إلى أن يفعل ما تأباه نفوس الحيوانات العجماء فماذا يكون حاله أليس من أكبر المصائب أن تنحط درجة الإِنْسَان في شهوة الفرج عن درجة الْحَيَوَان.
اللَّهُمَّ إن في ذَلِكَ من الخزي والعار ما لا تطيقه النُّفُوس الكريمة ولا تحتمله الطباع السليمة فلو لم يكن في رذيلة اللواط سِوَى ذَلِكَ لكفى بها ذمًا يصرف النَّاس عَنْهَا ويزهدهم فيها ولكنها فوق ذَلِكَ يترتب عَلَيْهَا من المضار والمفاسد ما يؤذي المجتمَعَ الإنساني.
وإليك البيان. أولاً: إذا فشت تلك العادة في أمة من الأمم وأصبحت داء خلقيًّا فيها لا تلبث أن تتعرض للفناء بانقراض نسلها ولو بعد حين لأن الرِّجَال فيها تنصرف عن النساء، فيقل النسل تدريجيًا وتنقرض الأمة فِي وَقْت ما.
ثانيًا: أنم اللائط يستغني بالذكر عن المرأة فإن كَانَ متزوجًا يهمل زوجته، فيعرضها للخنا والفساد، وإن كَانَ أعزب، لم يفكر في الحصول على زواج وإذا عمت اللواطية أمة استغنت رجالها عن نسائها وأصبحت النساء ضائعات لا يجدن موئلاً ولا يظفرن بمعين يرحم ضعفهن وفي ذَلِكَ من الخطر الاجتماعي والعمراني ما فيه.
وَقَالَ: فداء اللواطية ماله الانصراف عن النساء ومَعَ ذَلِكَ فإن إتيان النساء في غير محل الولادة عادة مرذولة يترتب عَلَيْهَا ضياع النسل كما قدمنا.
ثالثًا: أن اللائط لا يبالي أن يستهوي الأحداث الَّذِينَ لا يدركون العار ولا يعرفون الفضيحة فيمرنهم على فساد الأَخْلاق ويولد عندهم ذَلِكَ الداء فإذا ما بلغوا حد الرجولة وجدوا أنفسهم منغمسين في الرذيلة فيضيع الحياء من وجوههم ولا يبالون بارتكاب الجرائم الأخلاقية، ولا يتعففون عن المحرمَاتَ الدنيئة ويكون ذَلِكَ الوزر في عنق اللائط الَّذِي عمل على إفساد أخلاقهم وكَانَ سببًا في انتزاع ماء الحياء من وجوههم وَذَلِكَ عَظِيم عَنْدَ الله تَعَالَى ومن يفعله يضاعف له الْعَذَاب يوم القيامة لأن عَلَيْهِ ورزين وزر ذَلِكَ الْعَمَل الشائن ووزر إفساد الغلام الَّذِي لم يكلف لتلك الشهوة الفاسدة التي تخلف وراءها ذَلِكَ البَلاء المبين. اهـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى.
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ: والدَلِيل من السنة على تحريم اللواط وعظم جرمه وعقوبة فاعله قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به». رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي.
عَنْ جَابِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ». رواه ابن ماجة والترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط». رواه النسائي وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً، أو امرأة في دبرها». رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه، ومِمَّا جَاءَ في إتيان النساء في أدبارهن ما يلي.
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «هِيَ اللوطية الصغرى يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها». وعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ». رواه أَحَمَد والبزار ورجالهما رِجَال الصحيح.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: عشر خصال من أعمال قوم لوط: تصفيف الشعر، وحل الإزار، ورمي البندق، والخذف بالحصا، واللعب بالحمام الطيارة، والصفير بالأصابع، وفرقعة الأكعب، وإسبال الإزار، وحل أزر الأقبية، وإدمان شرب الخمر، وإتيان الذكور وستزيد عَلَيْهَا هذه الأمة مساحقة النساء في أدبارهن. رواه أبو يعلى بإسناد جيد وروي عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «ثلاثة لا تقبل لَهُمْ شهادة أن لا إله إِلا الله: الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر». حديث غريب جدًا رواه الطبراني في الأوسط. وعن جابر رض الله عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم نهى عن محاش النساء. رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات. وروى ابن ماجة والبيهقي كلاهما عن الحارث بن مخلدة عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لا ينظر الله إلى رجل جامَعَ امرأة في دبرها». وعنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها». رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود وعنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه كفر بما أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم». وعن مجاهد عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: من أتى صبيًا فقَدْ كفر.
وروي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من مَاتَ من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله تَعَالَى إليهم حتى يحشره معهم». وخَرَجَ الطبراني من حديث جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال فيه: «وإذا كثر اللواطية رفع الله يده عن الخلق، فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا». وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

.فصل في عقوبة اللواط:

ولما كانت فاحشة اللواط شأنها في القبح كما ذكر اختلف أئمة الإسلام في عقوبتها لمن ثبتت عَلَيْهِ فَقَالَ قوم: إنها كالزنا تمامًا أي يرجم فيها المحصن، ويجلد غيره مائة جلدةٍ ويغرب. وَقَالَ آخرون: يرجم الفاعل والمفعول به على أي حال كَانُوا عملاً بالْحَدِيث المتقدم قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ وقَدْ أطبق أصحاب رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم على قتله لم يختلف فيه مِنْهُمْ رجلان وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله.
ومن تأمل قوله سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}، وقوله في اللواط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} تبين له تفاوت ما بينهما فإنه سُبْحَانَهُ نكر الفاحشة في الزنا أي هُوَ فاحشة من الفواحش وعرفها في اللواط، وَذَلِكَ يفيد انه جامَعَ لمعاني اسم الفاحشة كما تَقُول: زيد الرجل، ونعم الرجل زيد، أي: أتأتون الخصلة التي استقر فحشها عَنْدَ كُلّ أحد فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها، ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ شأن فحشها بأنها لم يعملها أحد من العالمين قبلهم: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ}.
ثُمَّ زَادَ في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القُلُوب وتنبو عَنْهُ الأسماع وتنفر منه أشد النفور وَهُوَ إتيان الرجل رجلاً مثله ينكحه كما ينكح الأنثى فَقَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال} ثُمَّ نبه على استغنائهم عن ذَلِكَ.
وأن الحامل لَهُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلا مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع وحصول الْمَوَدَّة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها وتذكر بعلها، وحصول النسل الَّذِي هُوَ حفظ هَذَا النوع الَّذِي هُوَ أشرف المخلوقات وتحصين المرأة.
وقضاء الوطر وحصول علاقة المصاهرة التي هِيَ أخت النسب وقيام الرجل على النساء وخروج أحب الخلق إِلَى اللهِ من جماعهن كالأنبياء والأَوْلِيَاء والْمُؤْمِنِين ومكاثرة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنبياء بأمته إلى غير ذَلِكَ من مصالح النكاح.
والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذَلِكَ كله وترَبِّي عَلَيْهِ بما لا يمكن حصر فساده ولا يعلم تفصيله إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن اللواطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عَلَيْهَا الرِّجَال وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور وهي شهوة النساء دون الذكور فقلبوا الأَمْر وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرِّجَال شهوة من دون النساء.
ولهَذَا قلب الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ ديارهم فجعل عإليها سافلها، وكَذَلِكَ قلبوا هم ونكسوا في الْعَذَاب على رؤوسهم ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن حكم عَلَيْهمْ بالإسراف وَهُوَ مجاوزة الحد فَقَالَ: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} فتأمل هل جَاءَ مثل ذَلِكَ أو قريب منه في الزنا؟.
وأكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ الذم بوصفين في غاية القبح فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} وسماهم مفسدين في قول نبيهم: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام: {أَنَا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ومن ذمه الله بمثل هذه المذمَاتَ ولما جادل فيهم خليله إبراهيم الملائكة وقَدْ أخبروه بإهلاكهم قيل له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.
وَكُن ناصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ ** بِإِرْشَادِهِمْ لَلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ

وَمُرْهُم بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَاِنْهِهِمْ ** عَنِ السُّوءِ وَاِزْجُر ذَا الْخَنَا عَن خَنائِهِ

وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الإِلَهِ بِحِكْمَةٍ ** لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمُ بِدَوَائِهِ

فَإِنْ يَهْدِي مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا ** تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرِ عَطَائِهِ

وَإِلا فَقَدْ أَدَّيْتُ مَا كَانَ وَاجِبًا ** عَلَيْكَ وَمَا مَلَكْتَ أَمْرَ اِهْتِدَائِه

اللَّهُمَّ اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يارب العالمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.موعظة:

عباد الله ذنب اللواط من أعظم الذُّنُوب يغضب رب العباد إنها لفاحشة يضيق بها الفضا وتعج لها السماء ويحل بها البَلاء فكشف حال، وسوء مآل، وداء عضال، وقبح أفعال وعيب دونه سائر العيوب، عيب تموت به الفضيلة وتحيا به الرذيلة وتتفتت على أهلها الأكباد، وتذوب من أجلها حياة القُلُوب، فعمل مسبوب، ووضع مقُلُوب، وفاعل ملعون، ومفعول به عَلَيْهِ مغضوب، وخلق فاسد، وشرف مسلوب، وعرض ممزق، وكرامة معدومة، وزهري، وجرب ذو ألوان، وقذر وأنتان، ووساخة دونها كُلّ وساخة، اللَّهُمَّ إن في هذه الفعلة الشنيعة من الخزي والعار ما لا تطيقه الطباع السليمة، كانت أمة قديم عصرها، باق ذكرها، كثير شرها تسكن بين الحجاز والشام، ترتكب هذه الفاحشة الشنيعة والجريمة الفظيعة علنًا في نواديهم ويذرون ما خلق الله من أزواج، ولا يبالون بمن يعتب عَلَيْهمْ ويشنع عَلَيْهمْ ولا يخافون لومة اللوام، فبعث الله إليهم لوطًا عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام فدعاهم إلى التَّوْحِيد، وترك عبادة الأصنام وحذرهم من فعل فاحشة اللواط وبالغ في إنذارهم وتحذيرهم، وكَانَ الجزاء والجواب مِنْهُمْ على هذه النَّصِيحَة أن قَالُوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ومقصود هؤلاء الأشقياء بهَذَا الوصف السخرية والتهكم بلوط ومن معه، وهَذَا كما يقوله الفساق والمرجة المعاصرون لبعض الصلحاء إذا أنكروا عَلَيْهمْ ووعظوهم، أخرجوا عنا هذا المتدين، أو هَذَا المتزهد، وهَذَا برهان واضح على أن قُلُوبهمْ ممتلئة من الحقَدْ والحسد والغيظ على الْمُؤْمِنِين فليموتوا بغيظهم ولله در القائل:
إِذَا بَعُدَ الْعُنْقُودُ عَنْهُ وَلَمْ يَصِلْ ** إليه بِوَجْهٍ قَالَ مُرٌّ وَحَامِضُ

وَيَقُولُ الآخر:
دَعِ الْحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدٍ ** كَفَاكَ مِنْهُ لَهِيبُ النَّارِ فِي كَبِدِهْ

إِنْ لُمْتَ ذَا حَسَدِ نَفَّسْتَ كُرْبَتَهُ ** وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْتَهُ بِيَدِهْ

آخر:
ضَارِي الطِّبَاعِ سُرُورُ النَّاسِ يُحْزِنُهُ ** وَلا انْشِرَاحَ لَهُ إِلا إِذَا آذَى

آخر:
فَدْمٌ يَذُمُّ فُنُونَ الْعِلْمِ مُحْتَقِرًا ** بِهَا وَمِنْ جَهْلِ الأَشْيَاءِ عَادَاهَا

آخر:
أَصَمَّكَ سُوءُ فَهْمِكَ عَنْ خِطَابِي ** وَأَعْمَاكَ الضَّلالُ عَنْ اهْتِدَائِي

قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
وَقَالَ آخر:
وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِب

فقلبت مدينتهم أي قوم لوط واتبعوا بحجارة من سجيل مسومة عَنْدَ الله للمسرفين أيها المسلم أتدري لماذا ذكر الله أخبارهم في كتابه العَظِيم وعلى لسان نبيه الكريم إنه وَاللهُ أَعْلَمُ لنعتبر بما أصابهم، ونحذر كُلّ الحذر ما كَانُوا عَلَيْهِ من سوء الحال، وقبح الفعال، قال الله تَعَالَى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} سبحان الله كيف يقع ذكر على ذكر وَهُوَ يعلم أن الله جَلَّ وَعَلا يراه وقَدْ نهاه ويعلم ما في ذَلِكَ من مخالفة العقل والدين، وما فيه من مرض خطير، وشر مستطير، وخزي وعار، هَذَا بالحَقِيقَة فعل تترفع عَنْهُ طباع الكلاب. والبغال والحمير، بل والقردة والخنازير، وما ظهر اللواط في أمة إِلا أذلت وأخزيت، وسلب عزها، وإذا أرادها الله عَزَّ وَجَلَّ إهلاك قرية فسق فيها المترفون فاستحقت الخراب والدمار، قال الله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فانتبهوا أيها الإِخْوَان وتناصحوا واحفظوا أولادكم واعلموا أنكم مسئولون عنهم وعن همالكم لَهُمْ احرصوا عَلَيْهمْ فوق حرصكم على أموالكم لعلكم تنجوا من التبعات وتسلموا من العقوبات جعلنا الله وإياكم ممن إذا خوف بِاللهِ ندم وخاف ورزقنا وإياكم من الإنابة والإنصاف ما يلحقنا بصالح الأسلاف وغفر لَنَا وَلَكُمْ وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فصل في ذكر بعض من خبث اللواطية:

وتأمل خبث اللواطية وفرط تمردهم على الله حيث جاءوا نبيهم لوطًا لما سمعوا بأنه قَدْ طرقه أضياف هم من أحسن البشر صورا فأقبل اللواطية إليه يهرعون، فلم رآهم قال لَهُمْ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ففدى أضيافه ببناته يزوجهم بهنَّ خوفًا على نَفْسهُ وعلى أضيافه من العار الشديد.
فَقَالَ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أليس مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} فردوا عَلَيْهِ ولكن رد جبار عنيد: {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فنفث نَبِيّ اللهِ نفثة مصدور خرجت من قلب مكروب، فَقَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}.
فكشف له رسل الله عن حَقِيقَة الحال وأعلموه أنهم ممن لَيْسَ يوصل إليهم ولا إليه بسببهم فلا تخف مِنْهُمْ ولا تعبأ بِهُمْ وهون عَلَيْكَ، فَقَالُوا: {يَا لُوطُ أَنَا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إليك} وبشروه بما جاءوا به من الوعد له، ومن الوعد المصيب لقومه فَقَالُوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} فاستبطأ نَبِيّ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام موعد هلاكهم، وَقَالَ: أريد أعجل من هَذَا فقَالَتْ الملائكة: {أليس الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
فوَاللهِ ما كَانَ بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إِلا ما بين السحر وطلوع الفجر وإذا بديارهم قَدْ اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الَّذِي لا يرد، من عَنْدَ الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبريل بأن يقلبها عَلَيْهمْ، كما أخبر به في محكم التنزيل.
فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ من قائل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَإليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} فجعلهم آية للعالمين وموعظة للمتقين ونكالاً وسلفًا لمن شاركها في أعمالهم من المجرمين وجعل ديارهم بطَرِيق السالكين: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} أخذوا على غرة وهم نائمون، وجاءهم بأسه وهم في سكرتهم يعمهون فما أغنى عنهم ما كَانُوا يكسبون تقلبوا على تلك اللذات طويلاً فأصبحوا بها يعذبون.
مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا ** مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا

ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات تمتعوا قليلاً وعذبوا طويلاً رتعوا مرتعًا وخيمًا فأعقبهم عذابًا أليمًا أسكرتهم خمرة تلك الشهوات فما استفاقوا منها إِلا وَهُوَ في منازل الهالكين فندموا وَاللهِ أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم فلو رَأَيْت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة والنار تخَرَجَ من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويُقَالُ لَهُمْ وهم على وجوههم يسحبون: {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ولَقَدْ قرب سبحانه مسافة الْعَذَاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في الْعَمَل، فَقَالَ مخوفًا لَهُمْ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}. انتهى.
ومن الأسباب التي ربما تَكُون سببًا إلى هذه المعصية النظر إلى الأمرد، فعلى الإِنْسَان أن يمنع نَفْسهُ من ذَلِكَ، فقَدْ صح عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «زنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا اليد لبطش، وزنا الرجل الخطا، وزنا الأذن الاستماع، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِكَ أو يكذبه». ولأجل ذَلِكَ بالغ الصالحون في الأعراض عن المردان وعن النظر إليهم وعن مخاطبتهم وعن مجالستهم قال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لَهُمْ صورًا كصور العذارى فهم أشد فتنة من النساء. وَقَالَ بعض التابعين: ما أَنَا بأخوف على الشاب الناسك مَعَ سبعٍ ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه وكَانَ يقال: لا يبيتن رجل مَعَ أمرد في مكَانَ واحد وحرم قياسًا على المرأة لأن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ما خلا رجل بامرأة إِلا كَانَ الشيطان ثالثهما». وفي المردان من يفوق النساء بحسنه فالفتنة به أعظم وانه يمكن في حقه من الشر ما لا يمكن في حق النساء ويسهل في حقه من طَرِيق الريبة والشر ما لا يتسهل في حق المرأة، فهو بالتحريم أولى، وأقوال السَّلَف في التنفير مِنْهُمْ والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر.
صُنِ الْحُسْنَ بِالتَّقْوَى وَإِلا فَيَذْهَبُ ** فَنُورُ التُّقَى يَكْسُو جَمَالاً وَيَكْسِبُ

وَمَا يَنْفَعُ الْوَجْهَ الْجَمِيلَ جَمَاله ** وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ مُهَذَّبُ

فَيَا حَسَنَ الْوَجْهِ اتَّقِ اللهَ إِنْ تُرِدْ ** دَوَامَ جَمَالٍ لَيْسَ يَفْنَى وَيَذْهَبُ

يَزِيدُ التُّقَى ذَا الْحُسْنِ حُسْنًا وَبَهْجَة ** وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لِلْحُسْنِ تَسْلِبُ

وَتَكْسِفُ نُورَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ ** وَتَكْسُوهُ قُبْحًا ثُمَّ لِلْقَلْبِ تَقْلِبُ

فَسَارِعْ إِلَى التَّقْوَى هُنَا تَجِدِ الْهَنَا ** غَدًا فِي صَفَا عَيْشٍ يَدُومُ وَيَعْذُبُ

فَمَا بَعْدَ ذِي الدُّنْيَا سِوَى جَثَّةٍ بِهَا ** نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَوْ لَظَى تَتَلَهَّبُ

وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
موعظة روى أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «تفرغوا من الدُّنْيَا، فإنه من كانت الدُّنْيَا أكبر همه، فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ومن كانت الآخِرَة أكبر همه جمَعَ الله له أموره وجعل غناه في قَلْبهُ وما أقبل عبد بقَلْبهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِين تفد إليه بالود والرحمة وكَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ إليه بكل خَيْر أسرع». ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أَهْل الشام اسمعوا قول أخٍ ناصحٍ فاجتمعوا إليه فَقَالَ: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون إن الَّذِينَ كَانُوا قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا عتيدًا فأصبح أملهم غرورًا ومساكنهم قبورًا. وَقَالَ بَعْضهمْ:
أَجِدّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا ** وَهَلْ هِيَ إِلا جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ

لَعمرِي لَقَدْ شَاهَدْتُ فِيهَا عَجَائِبًا ** وَصَاحِبْنِي فِيهَا مَسْودٌ وَسَيِّدُ

رَأَيْتُ بِهَا أَهْلُ الْمَوَاهِبِ مَرَّةً ** وَقَدْ طَابَ عَيْشٌ وَالسُّرُورُ يُجَدَّدُ

فَمَا رَاعَهمُ إِلا الرَّزَايَا ثَوَابِتٌ ** عَلَيْهِمْ وَقَامَتْ فِي أَذَاهُمْ تُحَشِّدُ

وَأَسْقَتْهُمُوا كَأْسًا مِن الذُّلِ مُتْرَعًا ** وَكَانَ لَهُمْ فَوْقَ السَّمَاكِينِ مَقْعَدُ

وَدَانَتْ لِمَنْ نَاوَاهُمُ بَعْضَ بُرْهَةٍ ** عَلَى نَكَدٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدَّدُ

آخر:
أَأمل أن أخلد والْمَنَايَا ** تدور علي من كُلّ النواحي

وما أدري وإن أمسيت يومًا ** لعلي لا أعيش إلى الصباح

إن كُلّ يوم يمر بكم يحمل ما ثَبِّتْ فيه من خَيْر أو شر يمضي فلا يعود أبدًا فإن قدرتم أن تحظوا كُلّ يوم بمكرمةٍ وتثبتوا فيه حسنةً فلا تؤخروا فإن الأيام صحائف فخلدوا فيها الجميل فقَدْ رأيتم حفظها لما استودعت من المحامد والمحاسن والمكارم في قديم الدهر وحديثه.
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمَنِ ** إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ

تَمُرُّ ساعاتُ أَيَّامي بِلا نَدَمٍ ** ولا بُكاءٍ وَلا خَوْفٍ ولا حَزَنِ

سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني ** سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني

مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني ** وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي

أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً ** عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني

يَا زَلَّةً كُتِبَتْ يَا غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ ** يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تَقْتُلْنِي

دَعْ عَنْكَ عَذْلِي يا مَنْ كَانَ يَعْذِلُنِي ** لَوْ كُنْتَ تَعْلَمْ مَا بِي كُنْتُ تَعْذُرُنِي

دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها ** دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها

دَعْنِي أَسِحُّ دُمُوعًا لا انقطاع لَهَا ** فَهَلْ عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُنْي

كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحًا ** عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني

وَقَدْ أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني ** وَلَمْ أَرَ مِنْ طَبِيبِ اليوم يَنْفَعُني

واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها ** مِن كُلّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ

واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها ** وصَارَ في الحَلْقَ مُرًا حِينَ غَرْغَرَني

وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا ** بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا كَفَنِي

وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ ** وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ

وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقًا ** حُرًا أَدِيْبًا أَرِيبًا عَارِفًا فَطِنِي

فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني ** مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني

واطَّرَّحُونِي عَلى الأَلْواحِ مُنْفَرِدًا ** وَصَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني

وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني ** غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ

وَأَلْبَسُوني ثِيابًا لا كِمومَ لها ** وَصارَ زَادي حَنُوطًِا حينَ حَنَّطَني

وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا ** خَلْفَ الإِمَامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَني

صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها ** ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني

وَأَنْزَلوني في قَبري على مَهَلٍ ** وَأَنْزَلُوا واحِدًا مِنْهُمْ يُلَحِّدُني

وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني ** وَأَسْبلَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني

فَقامَ مُحتَرِمًا بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً ** وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني

وقَالَ هُلُّوا عَلَيْهِ التُّرْبَ واغْتَنِموا ** حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ

في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا ** أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني

وَأَوْدَعُونِي وَلَجُوا في سُؤ الهِمُوا ** مَا لِي سِوَاكَ إِلَهِي مَنْ يُخَلِّصْنِ

وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ ** مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كَانَ أَدهَشَني

مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لَهُمْ ** إذْ هَالَني مِنْهُمَا مَا كَانَ فَأَفْزَعَني

فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يَا أَمَلي ** فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ

تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا ** وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني

فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها ** فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها

وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيَا بِأَجْمَعِها ** هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الزَّادِ والكَفَن

خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها ** لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ

يَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي ** فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني

اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بِفَضْلِكَ وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.